لم تؤدِّ الصواريخ التي أُطلقت قبل أيام على مدينة «ماريوبول» الساحلية بأوكرانيا إلى إيقاع قتلى في صفوف المدنيين فحسب، بل أيضاً وجهت ضريبة قوية للاستراتيجية الغربية، غير المجدية حتى الآن، الرامية لوقف الاعتداء الروسي على أوكرانيا. فقد علق الرئيس أوباما وحلفاؤه الأوروبيون آمالاً عريضة على استراتيجية العقوبات باعتبار أنها ستضغط على الرئيس بوتين وتدفعه إلى القبول بحل متفاوض عليه للصراع. وكانوا ينتظرون أن يمارس نفوذه لدى الانفصاليين الموالين لروسيا حتى يلتزموا باتفاق «مينسك» لوقف إطلاق النار الذي وقعه في شهر سبتمبر الماضي ممثلون عن أوكرانيا وروسيا وأوروبا، ولكن بدلًا من ذلك أطلق وكلاء بوتين صواريخ على «ماريوبول»، متجاهلين بذلك اتفاق «مينسك»! بل إنهم في طريقهم للاستيلاء على مزيد من الأراضي الأوكرانية. وهم إذ يقومون بذلك فلأنه حصل، كما أكد ذلك أوباما «بدعم روسي وبسلاح روسي وبمعدات وتدريب روسي، وأيضاً بقوات روسية». ويبدو أن الهجوم الأخير على «ماريوبول» ليس أكثر من خطوة أولى في مسيرة الجهود الروسية الرامية للسيطرة على شريط بري يربط روسيا بشبه جزيرة القرم التي ضمتها موسكو، وهو ما أشار إليه أحد رجال الأعمال الأوروبيين، قائلاً: «نحن إزاء اختبار روسي للمجتمع الدولي لمعرفة ردة فعل الأوروبيين والأميركيين». وهذا المسعى الروسي يحتم على الغرب الرد بقوة من خلال تزويد أوكرانيا بأسلحة دفاعية لمنع الاعتداء الروسي، فقد أجاز الكونجرس الأميركي في شهر ديسمبر الماضي قانون دعم أوكرانيا الذي يسمح للرئيس بمد ذلك البلد بالسلاح. ولكن البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي فضلا التريث قليلًا وعدم التسرع بإرسال مساعدات فتاكة إلى «كييف» مخافة التصعيد، وأيضاً خشية حرف جهود تطبيق اتفاق «مينسك» عن مسارها. ولكن الامتناع عن إرسال السلاح لم تقابله روسيا بسياسة مماثلة، حيث واصلت هي إرسال المئات من قطع المدفعية إلى داخل الأراضي الأوكرانية، ومعها عدد من الدبابات والعربات المصفحة، والصواريخ، وهذا الأمر أوضحه السفير الأميركي السابق لدى أوكرانيا، جون هيربست، قائلًا: «كانت لدينا سياسة واضحة بعدم تزويد أوكرانيا بالسلاح، غير أن ما رأينا في الجهة المقابلة هو رغبة أكيدة في التصعيد، بل إن ما جرى هو أن غياب الدعم الغربي لأوكرانيا شجع روسيا على مزيد من التصعيد»، وبعبارة أخرى أدى عدم تعزيز دفاعات «كييف» إلى تحفيز بوتين على قضم أجزاء كبيرة من الأراضي الأوكرانية. وفي إطار الدعم العسكري المطلوب سيصدر السفير السابق ومعه عدد من الدبلوماسيين الأميركيين البارزين تقريراً يفصل في نوع المساعدات العسكرية التي يعتقدون أن على الولايات المتحدة توفيرها لأوكرانيا، وهم يريدون من واشنطن تعزيز القدرات الدفاعية لكييف لصد الصواريخ الروسية بعيدة المدى وتحسين إمكانات الرصد من خلال الرادارات ومعدات الاتصال المتطورة، وأيضاً الصواريخ القادرة على اختراق الدروع والعربات الروسية المصفحة. ومع أن أوباما سيبدي بعض التحفظ على إرسال السلاح، إلا أن العنف في أوكرانيا لن يتوقف حتى يقتنع بوتين بأن ثمن تجاهل الدبلوماسية وتغليب منطق الحرب سيكون باهظاً. ولو كان بوتين حريص فعلًا على الحل الدبلوماسي لقبل باتفاق «مينسك» الذي يستجيب تقريباً لكل مطالب موسكو المتمثلة في حكم ذاتي في مناطق أوكرانيا الشرقية التي يسيطر عليها وكلاؤه، وحفظ حقوق اللغة الروسية للناطقين بها، والتزام الحكومة الأوكرانية بتوفير التمويل للخطط الاقتصادية للمناطق الشرقية. وأيضاً لو طبق الاتفاق لأسقطت أوكرانيا أي مطالب محتملة بالالتحاق بحلف شمال الأطلسي، لاسيما أن أعضاء «الناتو» لم يثيروا الموضوع أصلًا إلا لمواجهة الاعتداءات الروسية. وبدلًا من الالتزام ببنود اتفاق «مينسك» تجاهل وكلاء موسكو الاتفاق، وبات واضحاً أن العقوبات لم توقف الزعيم الروسي الذي يبدو أنه مستعد للتضحية بازدهار بلاده من أجل السيطرة على أوكرانيا، حيث يسعى إلى صرف انتباه الرأي العام الداخلي عن المصاعب الاقتصادية للبلاد بالزعم إنها نتيجة مؤامرة غربية لتدمير روسيا. والحقيقة أن هناك ما يكفي الآن من الأسباب التي تدفع للاعتقاد أنه بدعم أوكرانيا ومدها بالسلاح قد يراجع بوتين مواقفه ويعيد النظر في مساره. ولو أن الجيش الأوكراني الضعيف استفاد من الدعم الغربي فإن تكلفة الاعتداءات الروسية سترتفع وتيرتها، وسيغدو من الصعب على بوتين إخفاء حقيقة الثمن البشري الذي سيدفعه، ما قد يؤثر على شعبيته. وبالطبع لن يُغلق الباب تماماً على إمكانية الرجوع، بحيث سترافق عملية تسليح الجيش الأوكراني تأكيدات واضحة بأن الغرب يفضل الحل الدبلوماسي وأن الهدف هو الالتزام باتفاق «مينسك» وليس إشعال الحرب. ترودي روبن كاتبة ومحللة سياسية أميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»